يتقن حزب القوات الرقص على حافة الهاوية، تماماً كما تغري النائب جورج عدوان الأدوار المزدوجة. الا أن الحزب ورجله وقعا في شباك فخهما، فأباحا رقابهما أمام الحلفاء والخصوم والرأي العام. لم تصل مناورات عدوان الأرثوذكسية والمختلطة الى خواتيمها السعيدة، بل كبدته والحزب هزائم متتالية لا يمكن معالجتها الا بالتمديد... كما يراهن القواتيون

كلما حاول حزب القوات تغطية آثار صفعة، طبعت وجهه صفعة أخرى. يحفر الحفر لغيره فيقع فيها. يناور سعياً وراء انتصار، فيزيد هزائمه. وبعدما سقط أخيراً في فخّ الأرثوذكسي الذي نصبه للتيار الوطني الحر، وجد في التمديد متنفساً لمحاولة صقل صورته أمام الرأي العام. لذلك كان لا بد، تالياً، لضمان سريان مفاعيل اطالة عمر المجلس النيابي، من العبث بأروقة المجلس الدستوري طمعاً بردّ طعن رئيس الجمهورية وتكتل التغيير والاصلاح.

عمل الحزب أمس على محورين، ففي حين تولّى مستقلو 14 آذار مهمة الضغط على قضاة الطائفة المسيحية، حاول القوات الدخول على القاضيين السنيين من باب تيار المستقبل. الا أن مساعي معراب باءت بالفشل بعد حضور جميع القضاة باستثناء القاضيين الشيعيين والقاضي الدرزي، الأمر الذي أدى الى عدم التئام المجلس.

يدرك حزب القوات جيداً عندما يوازن كفة التمديد مع كفة الانتخابات النيابية، أن بالتمديد وحده يمكن اعادة إحياء الحزب في الشارع المسيحي وتدارك الهزائم القريبة. لذلك تفضل معراب التلطي وراء الأوضاع الأمنية لاعادة لملمة أوضاعها، التي زادتها سوءاً خسارة المراهنة الاقليمية على سقوط النظام السوري.

وفيما يتحمل الحزب مسؤولية خسائر معراب المتراكمة، يتحمل النائب جورج عدوان منفرداً مسؤولية سوء ادارة الملف الانتخابي أولاً، ونسف العلاقة مع الحلفاء ثانياً. لا يمكن في هذا السياق لأي قواتي أو مستقبلي أو اشتراكي أو مستقل في 14 آذار الا لوم معراب على تكليف عدوان واستبعاد النائب انطوان زهرا فور اعتراضه على سياسة زميله وحزبه تجاه الأطراف الأخرى. يومها صمّت معراب آذانها عن دعوات زهرا إلى الابتعاد عن أساليب المناورة والتذاكي على المستقبل والمستقلين لزيادة الأرباح، واختارت اقصاءه عن مفاوضات القوانين الانتخابية مقابل منح الامتيازات لعدوان. وبعدما عرّى عدوان القوات أمام حلفائها وجمهورها، كان لا بدّ من جردة حساب على الأشهر التي خلت.

لم يأت تجاهل رئيس كتلة المستقبل فؤاد السنيورة أمس لطلبات القوات عن عبث، كما لم تتسرب قبلها همسات المستقبليين في الصالونات الضيقة عن غدر رئيس الحزب سمير جعجع من فراغ. تتمحور الأحاديث هنا حول رجل القوات الأول في المرحلة السابقة (أي عدوان) وابتزازه المستقبل عن سابق تصميم... تلك كانت مهمة الأرثوذكسي أصلاً. كان لا بد لأحد النواب من أن يكون عميلاً مزدوجاً يتنقل بخفة بين الحلفاء والخصوم، فوقع الخيار سريعاً على عدوان المتقن لهذا الدور منذ بداياته القتالية. أخذ عدوان على عاتقه تحقيق أحلام جعجع بكتلة مسيحية كبيرة على غرار التيار الوطني الحر، يكون فيها المستقلون والكتائب أحد أجنحة الحزب. وعرف كيف يقسم مهامه بين تيار المستقبل من جهة ورئيس مجلس النواب نبيه بري والتيار الوطني الحر من جهة أخرى. كان ضرورياً، هنا، من أجل ابتزاز المستقبل ورفع سقف المفاوضات لنيل مقاعد انتخابية اضافية من ايهام الحليف بأن صفقة مع الخصوم على وشك الحصول. لذلك نصب عدوان نفسه في بكركي عراباً للأرثوذكسي بدلا من ايلي الفرزلي، ومشى به الى اجتماعات اللجنة الفرعية. سريعاً نال ثقة التيار موجهاً الأنظار صوب النائب سامي الجميل على أنه العائق الوحيد أمام اقرار الأرثوذكسي. وفيما تلهّى نواب التيار بالكتائب، واظب عدوان على الالتصاق ببري متمنياً عليه تأجيل عقد جلسة عامة لمجلس النواب حتى حصول التوافق ومفاوضة المستقبل على المكاسب مقابل التخلي عن الأرثوذكسي.

تمكن نائب القوات من تعليق الجلسة شهراً محتمياً بقلة خبرة الجميّل السياسية ومتلطياً وراء معارضته للأرثوذكسي، وفور اطمئنانه الى زيادة حصص الحزب في عكار والكورة والأشرفية والبقاع الغربي وزحلة، بادر الى نسف الأرثوذكسي عبر تبني قانون المستقبل المختلط. لم يكن في مقدور نائب رئيس القوات، عشية انعقاد الجلسة، اخفاء «مؤامرته» على التيار والكتائب لمدة أطول، فكان أن فضحت لعبته أمام الأحزاب والرأي العام. الا أنه حتى هنا، أراد المضي قدما في مناوراته حين استفاض في تبرير نقل بندقية القوات من الأرثوذكسي الى المختلط، معلناً على الملأ تنازل الحزب عن 10 نواب مسيحيين كرمى للتوافق. لم يستطع عدوان اكماله مهمته المزدوجة، وفشل وحليفه في ايصال المختلط الى بر التصويت، فبدأ يشعر بحرارة الخسارة في أنحاء جسده. حتى أعصابه لم تحتمل وطأة الخدعة المرّة، فاضطر إلى الخروج من جلسة التواصل التي تلت طعنه للأرثوذكسي. الأمر الذي دفع بزملائه الى اختصار ما حصل بـ«أزمة ضمير قاتل الأرثوذكسي». هنا تتالت الصفعات: صفعة الأرثوذكسي، صفعة المختلط، صفعة اضمحلال الحلم القواتي، صفعة انقلاب الرأي العام، وأخيرا صفعة بكركي عبر رد المطران سمير مظلوم على «خيانة» القوات وتنازلها عن النواب المسيحيين عمدا. أما الصفعة الأشد ايلاما التي طبعت سمات وجه عدوان، فكانت كشف المستقبل للعبته واستعماله تاليا لنسف الأرثوذكسي مقابل وعود فارغة بمقاعد وهمية.

لم تكن صفعة التخلي عن الأرثوذكسي الأولى في أرشيف القوات. فعند نبش عدوان للقانون الأرثوذكسي وتسويقه في بكركي لتأمين اجماع مسيحي حوله، تلقى الصفعة الأولى في علاقته مع المستقبل والاشتراكي ومستقلي قوى 14 آذار. وعند مبادرته الى الخروج من ورطة الأرثوذكسي، تتالت «الكفوف» من حيث لا يدري. وليست خسارته للمستقبل الممتعض من عملية ابتزازه، ولا للكتائب والتيار اللذين راهنا على قدرتهما على تغيير تاريخ القوات القريب، آخر المطاف. يصعب اليوم، قبل المبادرة الى ترميم العلاقة أقله مع الحلفاء، اقناع الرأي العام نفسه بأن الحزب الذي بنى أمجاده فوق حقوقهم، لن يمضي قدما في التنازل عن المزيد من الحقوق لصالح زيادة أمجاده. الكوة الوحيدة في سماء القوات، تكمن في عدم استفادة التيار الوطني الحر سياسياً وشعبياً من أخطاء معراب المتتالية، والمساهمة في طيّ همروجة الأرثوذكسي بعد أسبوع واحد على غرار سائر القضايا الأخرى التي فشل التيار في ترجمتها أرباحاً سياسية.